الحرية.. بين الضوابط الشرعية والقناعات البشرية
“الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الإنسانية، بدأ في أمة الإسلام مع مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد جرب أهل الباطل كل الأساليب مع هذا الدين وأتباعه فلم يفلحوا، وآخر ما جربوه هو القوة العسكرية بكل ألوانها، ما يخطر منها على البال وما لا يخطر، ورغم كل ذلك فقد انتصر المسلمون وهُزم الكافرون”.
بهذه الكلمات بدأ الداعية الكبير الدكتور السيد محمد نوح -أستاذ الحديث وعلومه بجامعتي الأزهر والكويت- محاضرته عن: “الحرية بين الضوابط الشرعية والقناعات البشرية “، التي أقامتها وزارة الأوقاف الكويتية في مسجد الوزان الثلاثاء 27-2-2007.
أكد الشيخ في بداية الحديث أن المؤامرة على المفاهيم الإسلامية تمثلت في فقرات عدة جمعتها عبارة واحدة هي “الغزو الفكري”، وظهرت محاور هذا الغزو في أمور، هي: التطاول على القرآن الكريم، وعلى السنة النبوية، واللغة العربية التي هي مفتاح لفهم القرآن والسنة، وعلى الأسرة وإبرازها على أنها قيد لحرية الإنسان، ثم تاريخنا حيث قدمونا بلا تاريخ، وقضائنا الشرعي بزعم أنه لم يعد صالحا لزماننا، وكذا الأخلاق الإسلامية وإبراز معتنقيها في صورة المتخلفين الرجعيين، والتطاول أخيرا على فكرة الخلافة الإسلامية.
وبين الشيخ أنه بعد فشل المستعمر في الحرب العسكرية لجأ إلى نوع جديد من الغزو وهو الغزو الفكري، فبدلا من احتلال الأوطان اتجه إلى احتلال المفاهيم وإفسادها وتفريغها من مضامينها، ومن هذه المفاهيم التي أراد أن يلوي عنقها: مفهوم الحرية؛ حيث حاول إبراز دين الإسلام على أنه دين كبت وقهر وتقييد للحريات بما فرضه وحرمه من أمور تمثل قيودا على حرية الإنسان.
مَن الإنسان؟
ولكي ينطلق الحديث صحيحا سليما بدأ الشيخ نوح بطرح هذا السؤال: مَن الإنسان؟ أي من هذا الإنسان الذي نتحدث عن حريته، وللإجابة على هذا السؤال تناول الشيخ الجليل مسألة فلسفة هذا الوجود ببيان أن أصله ومبدعه إنما هو الله الواحد، الموصوف بالكمالات، والمنزه عن كل نقص، وقد خلق للإنسان مخلوقات كثيرة سخرها للقيام على خدمته وقضاء شئونه؛ لينتهي من هذا التناول إلى تعريف دقيق للإنسان بأنه: “سيد في هذه الأرض، عبد لربها”، ومن هنا فإنه لا يجوز للإنسان أن يستعبده ما خلقه الله لخدمته، فيصير عبدا للمال أو السلطان أو الجاه، فلا يصح إلا أن نكون عبيدا لله تعالى، وهذا هو جوهر الحرية؛ لأن ذلك يضمن للمسلم العزة والقوة والكرامة الإنسانية، فكمال العبودية لله هو عينه كمال الحرية.
وتساءل الداعية الكبير: إذا كان الأمر كذلك فهل الإنسان حر -عندنا في الإسلام- بإطلاق، أم أنه حر في أمور ومقيد في أمور أخرى؟ ويجيب على سؤاله مقررا أن الإنسان في الإسلام حر -فكرًا- في كل شيء ما عدا ثلاث قضايا:
الأولى: الذات الإلهية، فلا يفكر فيها، لا لأنها محظور أو خط أحمر، ولكن لأن المخلوق مهما أوتي من علم وفهم لن يحيط بالخالق؛ فأنا مخلوق لهذا الخالق ومن هنا فلن أحيط به أو أعرف كنهه، وقد قال تعالى: ” لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ “(103-الأنعام)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله تعالى”.
الثانية: الغيبيات، مثل الملائكة، والجن، وتفاصيل اليوم الآخر، التي ينبغي ألا نفكر فيها أيضا لأنها غيب عنا لن نستطيع إدراكه، فهي ليست من مجالات الإدراك العقلي ولأن التفكير في هذه الأمور بعقولنا المجردة وبعيدا عن نصوص الوحي ينتهي بالإنسان إلى إنكارها.
الثالثة: القدر: فلا يعترض المسلم على قضاء الله وقدره، والقدر نوعان: قدر كوني، وهو الذي لا مجال فيه للعقل أو التفكير، وقدر شرعي، وهو محل التفكير مثل الأخذ بالأسباب.
ويستطرد الشيخ: إذا كانت هذه حدود حرية المسلم فإن الحرية التي يتنادون بها اليوم هي حرية مطلقة من كل القيود، ليس فيها حرام ولا محظورات، وهي تعني في جوهرها الانعتاقمن القيود الشرعية، فيستباح الحرام، تُسرق الأموال، تُنتهك الأعراض، تتبرج النساء، يُباح الزنا… وباختصار؛ فالحرية عندهم هي تَحلل من الدين كله بحيث لا يكون الدين إلا في المسجد بعيدا عن حركة الحياة.
وهم بذلك يحاولون نقل تجربة الكنيسة في أوروبا التي مثلت نيابة عن الله في الأرض، فالحرام ما تحرمه، والحلال ما تحلله، ولا يسع أحدا أن يخالف هذه الكنيسة، فقتلت من قتلت، وأحرقت من أحرقت، حتى ثار الشعب عليها، وحصر سلطتها في الكنائس والأديرة فحسب، ولم تعد لها علاقة بأمور الحياة، وهو نموذج لا يعرفه الإسلام.
وبخلاف هذا النموذج الغربي يرسم لنا شرعنا الحنيف حرية من نوع آخر يضمن السعادة والكرامة لكل بني البشر، وهو ما أكد عليه الشيخ سيد نوح حين قال: إن الحرية في الإسلام مقيدة بقيود؛ حيث وضع الشرع الحنيف قيودا على كل شيء، في البيع والشراء، في الزواج والطلاق، في العبادات، في الحدود والعقوبات، في السياسة والحكم؛ فضَبط الحلال والحرام بضوابط وقواعد تحفظ للناس كرامتهم وتُديم لهم حريتهم وسعادتهم.
وشدد الشيخ الجليل على أن هذه القيود في الحقيقة ليست تقييدا للإنسان بل هي في مصلحته في نهاية الأمر؛ لأننا لو أطلقنا الأمور للناس لطغى بعضهم على بعض وظلم بعضهم بعضا، فبهذه القيود التي ضبط بها الشرع العظيم أمور الحلال والحرام يأخذ كل إنسان حظه من الحرية ويتمتع بنصيبه الذي فرضه الله له دون طغيان على حق أحد بما يحفظ في النهاية العدالة في قسمة الحرية لكل بني البشر؛ ولهذا كان الإسلام عظيما حينما عمل بالمبدأ القائل: “حريتي تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين”.
على أن ما يحرمه الإنسان من حرية ليتمتع الآخرون بنصيبهم منها، وما يعانيه في سبيل الالتزام بهذه القيود سوف يعوضه الله عنه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، في جنة عرضها السماوات والأرض، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فهي حياة أبدية لا تنتهي، ملؤها السكينة والرضا، حياة نزع الله منها الحقد والحسد، لكن ذلك لن يكون إلا إذا وقفنا عند ما حُرِّم علينا، والتزمنا بما قيدنا الله به، وأدّينا ما فرضه علينا، ومن هنا فإن الحرية في الإسلام لا تتحقق إلا يوم أن نطيع الله تعالى وننزل على حكمه.
كيف نحميها؟
والحرية بهذا المفهوم الإسلامي نعمة من الله تعالى تستحق الحمد والشكر، كما تستحق أن نحافظ عليها ونرعاها حتى ننعم جميعا بها، وتتحقق -من ثَمَّ- السعادة للبشرية كلها.
وذكر الداعية الدكتور سيد نوح أننا لن نستطيع الحفاظ على هذه الحرية وحمايتها إلا بمراعاة خمسة أمور:
الأول: إيقاظ الفطرة وإحياء الضمير والقلب، فلا يُقترف محرمٌ، ولا يُفرط في واجب.
الثاني: إعمال العقل، بحيث يتحرك مع العاطفة، ليكتمل بناء الإنسان ويتوازن في سلوكه وتصرفاته حين يجمع بين العقل والعاطفة.
الثالث: تحريك المجتمع بحيث يكون المجتمع واعيا لما يدور فيه، فيشد على يد الظالم، ويعرف المعروف وينكر المنكر.
الرابع: تنبيه الحاكم؛ فالله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فهو القيم على أمور الأمة ومصالح المجتمع، والأمين على تطبيق شرع الله في الأرض.
الخامس: مراقبة الله تعالى واستشعار رؤيته لنا واطلاعه علينا.. وإذالم تفلح كل العوامل السابقة فإن مراقبة الله هي الناجحة وهي الكفيلة بتحقيق كل شيء، وضمان جميع الحقوق.
وأنهى الشيخ محاضرته قائلا: هكذا تكون لنا حريتنا النابعة من ديننا ومن ثقافتنا، لا من النماذج الغربية التي لها ظروف غير ظروفنا وديانات غير ديننا، ولا من الثقافات الوافدة الغريبة عن طبيعة الإسلام.