المولد والنشأة
ولد السيد محمد السيد نوح في عزبة السباعي الشهيرة بـ”عزبة غانم” التابعة لقرية الكوم الطويل في مركز بيلا بمحافظة كفر الشيخ في جمهورية مصر العربية في 23 جمادى الأولى 1365هـ الموافق 24 أبريل 1946م لأسرة ريفية فقيرة؛ الأب فيها يعمل بالزراعة، وله عشرة إخوة: خمسة أشقاء، وخمسة غير أشقاء؛ حيث تزوج أبوه محمد السيد نوح من ثلاث نسوة، وكان فقيدنا أكبر إخوته سنًّا؛ حيث تزوج من أخت الشيخ زين العشري أحد زملائه الذين كان يحبهم ويتأثر بهم، وأقام في المحلة الكبرى بمحافظة الغربية، وأنجب عشرة من الأولاد: تسعة ذكور، وبنتًا واحدةً.
أتم حفظ القرآن الكريم وهو ابن ثمانية أعوام، ثم انتقل إلى المعهد الأزهري الابتدائي بكفر الشيخ، ثم إلى معهد المحلة الأزهري الثانوي ليحقِّق في الثانوية الأزهرية ترتيب الأول على محافظته والثالث على الجمهورية، ثم تخرَّج في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، وتدرج حتى حصل على العالمية “الدكتوراه” عام 1976م.
وقد حمل سيد نوح هموم أسرته الفقيرة منذ الصغر، فكان يشارك في إعالتها عبر المكافآت (45 جنيهًا مصريًّا) التي كان يتقاضاها من الأزهر بحكم تفوقه الدراسي حتى كان هدفه من حصوله على الماجستير والدكتوراه- إلى جانب تحصيل العلم- تحسين حاله وحال أسرته الاقتصادي.
تأثر في المرحلة الثانوية تأثرًا كبيرًا بالشيخ إبراهيم خميس، ثم بالشيخ عبد الفتاح سلطان، وهيَّأ له القَدَر في مرحلة الدكتوراه أن يقرأ كتاب: “العبادة في الإسلام” للشيخ يوسف القرضاوي الذي أثَّر فيه تأثيرًا كبيرًا، وأدرك من خلاله سر وجوده ومهمته في الحياة.
كان الشيخ موغلاً في التصوف، وكان صادقًا في تصوفه، وكان شيخه في هذا الشيخ عبد السلام أبو الفضل إمام مسجد العباسي في المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في ذلك الوقت الذي تتلمذ على يديه هو ومحمد محمد الشريف، وحسن الحفناوي، وكان الشيخ سيد- يرحمه الله- متابعًا لمجلة الدعوة الإخوانية، ومعجبًا بما يكتبه الأستاذ عمر التلمساني، ومتابعًا لنشاط الأستاذ محمد العدوي في قرية محلة أبو علي التابعة للمحلة الكبرى، فأراد الشيخ الدكتور يحيى إسماعيل رفيق عمره في الدراسة والدعوة والتخصص، أن ينقل إليه بعضًا من فكر الإخوان ومنهجهم، ودله على الشيخ محمد العدوي.
وفي إحدى المناسبات تقابل د. نوح بالشيخ العدوي وعرَّفه بنفسه، فقال له الشيخ العدوي: “أين أنتم؟! وأين دور علماء الأزهر؟!” فقال له الشيخ نوح: فيكم الكفاية والبركة إن شاء الله، فقال له العدوي: “انطلقوا وجاهدوا ونحن أحذية في أقدامكم“.
وكان هذا من الأسباب البارزة لالتحاقه بالإخوان المسلمين، والتي كان لها دور بارز في تفتيح آفاقه ليطل منها على قضايا الأمة، ويصبح داعيةً شاملاً؛ يحمل هموم أمته بعد أن كان مجرد واعظ وأكاديمي، فتفجَّرت فيها طاقاته الدعوية، وملكاته الإيمانية والتربوية، وانطلق انطلاقته المباركة حتى قُطعت أنفاس كل من كان يعمل معه، ولقي الله وهو على ذلك.
بعد تعيينه بعامَين مدرِّسًا بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، استقدمه الشيخ رءوف شلبي وكيلاً لأصول الدين في المنصورة لمساعدته في تنفيذ برنامجه التربوي هناك، وشجَّعه الشيخ العدوي على ذلك، ثم انتُدب أستاذًا زائرًا في كلية الشريعة بدولة قطر عام 1981م؛ حيث كان عميدها في ذلك الوقت الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، ثم انتقل إلى الإمارات عام 1982م، ومكث فيها حتى عام 1993م، وهو العام الذي انتقل فيه إلى كلية الشريعة بجامعة الكويت أستاذًا للحديث وعلومه إلى أن وافته المنية.
ومن الجدير بالذكر أن الشيخ أُخْرِج من مصر عام 1993م لظروف أمنية، وظل حتى عام 2003م بعيدًا عن أمه إلى أن استقدمها في العام نفسه إلى الكويت، وذهب معها إلى الأراضي المقدسة ليقضيَ معها فريضة الحج، ولم ينزل مصر إلا مريضًا في عام 2005م في مستشفى دار الفؤاد بمدينة 6 أكتوبر بالقاهرة.
صفاته الإنسانية والخلقية
تمتع الشيخ بمجموعةٍ من الصفات أجمع عليها كل من عرفه، حتى إن من اقترب منه وتعامل معه لا يملك إلا أن يتمثَّل ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض” (2).
وأحسب أن الشيخ قد وُضِع له القبول في الأرض بما آتاه الله من صفات كريمة وخلال حميدة، ومن أهم هذه الصفات:
الإخلاص: ومع أن الإخلاص سرٌّ بين العبد وربه؛ لا يستطيع أحد أن يقطع به، فإن له آثارًا وشواهدَ تدل عليه، وأعمالاً ومظاهر تقود إليه؛ منها أن كلامه كان يمس شغاف القلوب بالرغم من أنه كلام يقوله غيره لكن لا يكون له مثل هذا الأثر، ومنها مشهده في الصلاة الذي كان يزيد من رآه إيمانًا، وكان كثير البكاء كما سبق القول.
وكان من أهل الليل، ومن أهل القرآن؛ حيث كان حريصًا على وِرْد القراءة ووِرْد المراجعة، فكان وِرْده اليومي ستة أجزاء التزم بها حتى في أيام مرضه، أما في رمضان فقد كان له مع القرآن شأن آخر؛ حيث كان التهجد عنده يبدأ من أول رمضان، وله في رمضان ثلاث ختمات: الختمة الأولى في العشرين الأوائل، والختمة الثانية في العشر الأواخر، والختمة الثالثة في صلواته فرائض ونوافل أثناء نهار رمضان وليله، هذا في الصلوات، أما في ورد القراءة اليومي فقد كان يختم القرآن كل ثلاثة أيام من أيام رمضان.
حتى رأيت قول الإمام الشاطبي متحققًا فيه أكمل ما يكون التحقق، من أن القرآن الكريم: “كليةُ الشريعة، وعمدةُ الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاةَ بغيره، ولا تَمَسُّكَ بشيء يخالفه.
وإذا كان كذلك لَزِمَ ضرورةً لمن رامَ الاطلاعَ على كلياتِ الشريعة، وطَمِعَ في إدراك مقاصدها واللحاقِ بأهلها أن يتخذَه سميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه جليسَه على مرِّ الأيام والليالي؛ نظرًا وعملاً، لا اقتصارًا على أحدهما، فيوشك أن يفوزَ بالبُغْيَةِ، ويظفرَ بالطُّلْبَةِ، ويجدَ نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول” (الموافقات: 4/346، طبعة دار الفكر العربي).
ومنها التواضع: فكان تواضعه لا يصدر عن تكلُّف أو تصنُّع أو مجاملة، بل كان تواضعًا صادقًا خالصًا حقيقيًّا غير مشوب بما يكدِّر صدقه وصفاءه.
وقد قاده هذا التواضع إلى صفة أخرى هي صفة إنكار الذات؛ فكان لا يرى لنفسه حقًّا عند أحد، ولا يرى ذاته ولا عمله في أي مقام، بل كان يشعر مع نفسه، ويُشعر غيره بالتقصير في جنب الله وفي حق الإسلام ودعوته، حتى إنه كان يعتذر مبكرًا للمتحدثين معه إذا ظهر خلافٌ في معرض الأحاديث الخاصة حتى لو لم يكن مخطئًا؛ إنجازًا للمهام، وحرصًا على الوقت، وتنازلاً عن حق نفسه، وسدًّا لباب الجدل والمِرَاء الذي لا يأتي بخير، كما كان يعتذر عن إخوانه ويتنازل عن حظه من أجلهم، ويعطي من حقه لحقوقهم؛ إيثارًا وحبًّا، وبغيةً في ثواب الله.
ومن الصفات الإنسانية التي تميَّز بها الشيخ الدكتور نوح: السماحة والحلم، فكان سمحًا مع كل الناس، حليمًا عليهم، بالرغم من غلظة بعضهم وجلافة بعض آخر، ومع علمه بحقيقة كل من يعامله كان يبادل المسيء إحسانًا، والمحسن إحسانًا مضاعفًا، حتى أحبه غير المسلمين.
ولعل أبرز الصفات التي تمتع بها أنه كان دائمًا في حاجة الناس، وكان موئل الناس في قضاء حوائجهم ومصالحهم، كما كان نشطًا في الجانب الاجتماعي؛ فلا يقصر في حق من الحقوق الاجتماعية العامة، ولا الحقوق الاجتماعية الخاصة، فضلاً عن علاقاته الاجتماعية مع رفاق دربه.
كل هذه صفات وغيرها تحتاج إلى سرد مواقف للتدليل عليها بما يضيق المقام عنه هنا، وهي مواقف كثيرة ومتنوعة شهد بها الموالي والمعادي، والمسلم وغير المسلم.
صفات التكوين العلمي
العلماء الربانيون هم الذين يجمعون بين العلم والعمل والتعليم، فلا يبلغ العالم أن يكون ربانيًّا إلا إذا تعلَّم ما يجهل، ويَعْمل بما عَلِم، ويُعَلّم ما يَعْلم.
وأحسب أن الشيخ سيد نوح جمع بين العلم والعمل والتعليم؛ فهو عالم أزهري متمكن، لا سيما في مجال السنة وعلوم الحديث كما سيأتي، عامل بما علم؛ فكان صوَّامًا قوَّامًا ذاكرًا لله تعالى، وكانت له دروسه التعليمية لكل الفئات: للعمال، ولطلبة العلم، وللمتخصصين في العلم الشرعي، كما كان العلم رحمًا موصولةً بينه وبين إخوانه من الدعاة والعلماء.
ومن صفات التكوين عنده أنه جمع بين الدعوة والتأصيل الشرعي، ولِمَ لا، وهو العالم المتضلع من السنة وعلومها، الماهر بالقرآن حفظًا وتلاوةً واستحضارًا واستشهادًا؟! فكثير من الدعاة ينطلقون على غير بصيرة، لا سيما ونحن في عصر الفضائيات والدعاة الجدد، وكثيرٌ من الشرعيين لا يتحرَّكون بعلمهم ولا يكون لهم نصيب في الدعوة والحركة بهذا العلم، ومن هنا نقول: إننا نعاني في الواقع العملي الفقهي والدعوي معًا من وجود فجوة ليست صغيرةً بين الفقيه وساحة الدعوة، وبين الداعية ومجال الفقه؛ فقلما تجد داعيةً يملك عقل الفقيه، أو فقيهًا يحمل روح الداعية.
إنما الفقيه معزول عن الواقع والحياة، والداعية بعيد عن محراب العلم الشرعي الرصين، في حين أنه لا تنافرَ بينهما في التصور الشرعي، بل كلاهما يستدعي الآخر ويستوجبه؛ فلن يجدد الدين في عقول الأمة إلا فقهاء يحملون أرواح الدعاة، ودعاة يملكون عقول الفقهاء، وقد جمع الشيخ سيد نوح هذه المعادلة المهمة، ووفقه الله فيها إلى حد بعيد.
ومن صفات وآثار تكوينه العلمي السليم أنه يقوم بتوصيل المعاني الكبيرة بأسلوب ميسور يفهمه الجميع؛ فكثير من الناس يتحدث بأسلوبٍ لا يفهمه إلا الخاصة، فضلاً عمن يتقعرون في أحاديثهم ويأتون بالغريب الوحشي من الألفاظ، أما التعبير عن المعاني الكبيرة والمفاهيم الصعبة بأسلوب ميسور يفهمه العالم والجاهل، فهذه ميزة لا يقدر عليها إلا أولو العزم من أهل العلم والدعوة، وقد استطاع الدكتور نوح أن يمزج بين العلم الرصين وإيصاله إلى الناس بشكل يتلاءم معهم؛ فالتقعر والإيغال في غريب الألفاظ ربما عبَّر عن نقص علمي فيمن يتحدثون به للإيهام بأنهم علماء متخصصون متمكنون من تخصصهم، وهم في الحقيقة فراغ وخواء من هذا التخصص؛ يستخدمون هذه الغرائب ليواروا بها السوءات والعورات.
وكنت إذا سمعت الشيخ نوح يتحدث في درس عام شارحًا لحديث أو مستعرضًا لقصة ظننت أن هذا الرجل داعية جماهيري؛ يحسن الحشد والتأثير على المشاعر، ولا علاقة له بالأكاديميات، لكن حين تسمعه بين العلماء في مناقشة رسالة علمية أو في مجلس لأهل العلم فهو العالم المتمكن الرصين المقدَّم، الذي غاص في بحار العلم وعايش بطون الكتب حتى استخرج كنوزها ولآلئها، ودلَّ على المعلومة في الكتب التراثية برقم الجزء، وأحيانًا برقم الصفحة.
ومن الأمور المنهجية التي تمتع بها عالمنا أنه تميَّز بالوضوح في العرض والترتيب في الأفكار، وهو منهج تسمعه في حديثه كما تقرؤه في كتبه سواء بسواء؛ ففي خطبه ودروسه كان يقسِّم خطبته أو محاضرته إلى عناصر وأفكار يتلوها غالبًا على مسامع الناس في بداية حديثه حتى يكون لدى الناس تصور واضح، ولا يخفى ما لهذا الأسلوب من تأثير على يقظة المتلقي وانتباهه، وحمله على متابعة الحديث عنصرًا بعنصرٍ وفكرةً بفكرةٍ.
آثاره العلمية التأليفية
أعني بالآثار العلمية هنا ما كتبه الشيخ سيد نوح في مجال علوم السنة والحديث والفكر الإسلامي، وهذا الجانب غير ظاهر وغير معروف عن الشيخ؛ فقد عرف بالدعوة والتربية أكثر من الصنعة الحديثية، مع أن جهوده العلمية ومؤلفاته في علوم السنة أكثر مما كتبه في الدعوة والتربية، وفيما يلي بيان بأهم آثاره التأليفية في هذه المجالات:
أولاً: في مجال الحديث والسنة:
فقد بدأ تخصصه في الماجستير والدكتوراه عن علوم السنة والحديث، فتناول في الماجستير موضوع: “زواج النبي بزينب بنت جحش ورد المطاعن التي أثيرت حوله في ضوء المنهج النقدي عند المحدثين” من جامعة الأزهر عام 1393هـ = 1973م، وفي الدكتوراه تناول موضوع: “الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي وجهوده في كتابه تهذيب الكمال” من جامعة الأزهر أيضًا عام 1396هـ = 1976م، وقد كان له السبق في الكشف عن الحافظ المزي والتنويه بكتابه تهذيب الكمال.
ثم كانت له أبحاث محكمة نَشرت معظمَها مجلةُ الشريعة والدراسات الإسلامية التي تصدر في الكويت، ثم نشرها بعد ذلك في كتب مستقلة.
ومن هذه الأبحاث: “علم الطبقات.. حقيقته وقيمته العلمية والحضارية”؛ تناول فيه تاريخ علم الطبقات، وبيَّن فوائده وثمراته ومنهج العلماء في تحديد الطبقات مع التمثيل لذلك.
ومنها كتاباه- شاركه فيهما الدكتور عبد الرزاق الشايجي الأستاذ بكلية الشريعة بالكويت-: “الصحابة وجهودهم في خدمة الحديث النبوي“، وكتاب: “التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي“، بيَّنا فيهما جهود الصحابة والتابعين في خدمة السنة تحمُّلاً وأداءً، وذَكَرَا أن جهود التابعين في حاجةٍ إلى الدراسة والاهتمام في هذا المجال.
ومنها كتابه- بالمشاركة أيضًا- بعنوان: “مناهج المحدثين في رواية الحديث بالمعنى“؛ أورد فيه مذهب المجوِّزين روايةَ الحديث بالمعنى مع ذكر ضوابطهم وأدلتهم، كما أورد مذهب المانعين لهذا الأمر مع بيان مسوغاتهم وأدلتهم، ورجَّح مذهب المجوِّزين لقوة الأدلة نقلاً ونظرًا مع اعتبار شروط ذلك.
ومن كتبه في الصنعة الحديثية كتابه: “درء تعارض أحاديث كراء الأرض“؛ أورد فيه الأحاديث التي تبيح كراء الأرض، والأحاديث التي تحظره، ودرأ التعارض بينها على طريقة الأصوليين المحدثين.
ثانيًا: في مجال الفكر الإسلامي:
أما في مجال الفكر الإسلامي فأبرزُ ما كتب الشيخ- رحمه الله- في هذا المجال ثلاثة كتب: الأول: “منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير“؛ حيث تناول هذه القضية من بُعد دعوي وتربوي؛ فتعرَّض فيه لمفهوم أهل السنة والجماعة وماهية الدعوة والتربية، وبيَّن الحاجة للدعوة والتربية في نظر أهل السنة والجماعة، وأهداف أهل السنة والجماعة من الدعوة والتربية، ومن أهم ما بيَّنه في هذا الكتاب أنه قرر قواعد ومنطلقات للدعوة والتغيير والتربية من وجهة نظر أهل السنة والجماعة.
والكتاب الثاني بعنوان: “حاجة البشرية إلى الحكم بما أنزل الله كتابًا وسنةً“؛ شخَّص فيه واقع الأمة المسلمة، وبيَّن الأسباب التي انتهت بهم إلى هذا الواقع، ورسم معالم طريق الخلاص مما تعاني منه البشرية اليوم من خلال الحكم بما أنزل الله.
أما الكتاب الثالث فجاء تحت عنوان: “دوافع عناية المسلمين بالقرآن الكريم“؛ ذكر فيه أحد عشر سببًا دفع المسلمين إلى الرعاية والاهتمام بالقرآن الكريم؛ يذكر الدافع ثم يستشهد له من القرآن نفسه، ومن الأحاديث والآثار، ومن تاريخ الأمة إذا لزم الأمر.
ثالثًا: في مجال الدعوة والتربية:
وهذا هو مجاله الأشهر وميدانه الأرحب الذي عُرف به واشتهر عنه؛ فالدكتور السيد نوح هو صاحب المصنف الشهير “آفات على الطريق“، و”توجيهات نبوية على الطريق“، وفي هذين الكتابين يقدِّم نموذجًا علميًّا تربويًّا خلقيًّا شهد بتميزه المتخصصون في الشرع كما شهد له المتخصصون في التربية والمناهج وطرق التدريس.
ففي “آفات على الطريق” صدر له ثمانية أجزاء يتناول الآفة بشكل مميز؛ حيث يعرِّفها في اللغة والاصطلاح ويذكر أسبابها ومظاهرها وآثارها، ثم يرسم الطريق لعلاجها.
وفي “توجيهات نبوية” ينتقي أحاديث يختارها، ثم يقوم عليها بالشرحوالإيضاح الذي له فيه منهجه الخاص كذلك؛ حيث يخرج الحديث ثم يذكر معناه إجمالاً، ويوضح ما فيه من جوانب متعددة، ثم يبين ما فيه من دروس دعوية وعِبَر إيمانية وملامح تربوية ينتفع بها الدعاة والقادة والمربون.
وله في هذا المجال كتابه الماتع: “من أخلاق النصر في جيل الصحابة“، وهو كتاب أخلاقي تربوي صوفي؛ أورد فيه الشيخ أربعة عشر خلقًا عند الصحابة كانت سببًا في تمكين الله لهم ونصره إياهم؛ يذكر الخلق ثم يدلل عليه بما في سيرة الصحابة مستشهدًا له بالقرآن والسنة، ولم يَفُتْه في نهاية الكتاب أن سجَّل بعض أقوال الأعداء عن هذه الأخلاق تؤكد أهميتها عند الصحابة وكيف كانت سببًا في نصر الله لهم.
وله رسالة طيبة عن: “تكوين البيت المسلم“؛ ذكر فيها الشروط التي وضعها الإسلام ليكون البيت مسلمًا بحق، كما بيَّن العقبات التي يضعها أعداء الإسلام في طريق تكوين البيت المسلم وكيف يمكن التغلب عليها.
بالإضافة إلى كتابه: “الدعوة الفردية في ضوء المنهج الإسلامي“، وكتابه: “منهج الرسول في غرس روح الجهاد في نفوس أصحابه“.
جهوده الدعوية والحركية
توزعت جهودَ الشيخ الدعوية مجالاتٌ عدة؛ فكان خطيبًا متطوعًا في وزارة الأوقاف الكويتية منذ 1994م حتى وفاته؛ يخطب الجمعة في مسجد الوزان بشكل مستمر إلا في أيامه الأخيرة بسبب ظروفه الصحية، ولما كانت عملية تغيير الكبد وشفاه الله نصحه الأطباء بعدم بذل أي مجهود مراعاةً لحالته، لكنه كان يقول: “لقد كنت في حكم الميت، وأحياني الله تعالى لينظر ماذا أفعل، ومِن شُكر الله تعالى ألاَّ أتأخر عن دعوته وتبليغ رسالته”، فكان يخطب الجمعة ويلقي الدروس ويتحدث في الندوات ويحضر المؤتمرات حتى وافاه الأجل المحتوم.
ولقد كان للشيخ أيادٍ بيضاءُ على ما يُعرف في الكويت بـ”لجنة زكاة العثمان” التي أسسها المرحوم بإذن الله الشيخ حسن أيوب؛ حيث جعل لها الشيخ نوح أنشطة ثقافية وخيرية وعلمية، وفعَّل دورها الخيري في أنحاء الكويت وخارج الكويت، فكان لها الفضل الكبير في التكافل الاجتماعي ونشر العلم وتعليمه.
ومن العلامات البارزة في جهود الشيخ الحركية والدعوية مجال العمل الخيري؛ فقد جعله الله سببًا في كفالة كثير من الأيتام، وفي إطلاق سراح كثيرٍ من المسجونين المُعْسرين، وفي توفير الأدوية لكثيرٍ من المرضى، وفي توفير فرص عمل للعاطلين، وفي قضاء مصالح الناس وحوائجهم.. كل ذلك عبر دعوته للخير عن طريق أهل الخير؛ حيث كان مسجده “الوزان” يقوم بما لا تقوم به مؤسسة متخصصة في العمل الخيري.
القضية الفلسطينية في حياة الشيخ
ومن أبرز القضايا التي كان له فيها دوره في العمل الخيري: القضية الفلسطينية؛ فقد كان يحشد الحشود، ويوحِّد الجهود، ويجمع النقود لأهل فلسطين، حتى إنه كان في عيد الأضحى يجمع قيمة الأضحية فيرسلها إلى فلسطين ويتم الذبح والتضحية هناك؛ فكان يجمع في الجمعة الواحدة أيام الأضحى ثمن ما يقرب من عشرين أو ثلاثين أضحية، علمًا بأن ثمن الأضحية الواحدة أربعون أو خمسون دينارًا كويتيًّا.
وبالإضافة إلى هذا العمل الخيري وجَمْع الأموال الواجبة لأهل فلسطين، كان من الناحية الفكرية والدعوية لا تكاد تخلو خطبة من خطبه من حديثٍ عن فلسطين وقضيتها وأزماتها، وكذلك دروسه ومحاضراته؛ فكانت القضية حاضرةً في عقله، بارزةً في وجدانه، فكان يحيا لها، ويجاهد من أجلها جهادًا كبيرًا، بل عاشت في كيانه وجَرَت في عروقه مجرى الدم.
نهاية المطاف
قبل عامين ونصف من رحيله ذهب إلى الصين ليركب كبدًا غير الكبد، وعاد معافًى إلى دروسه ونشاطه الدعوي بالرغم من أن الأطباء كانوا ينصحونه- كما سبقت الإشارة- بعدم بذل مزيد من الجهد، لكنه لم يكن يستجيب لهذه النداءات، وانطلق الشيخ انطلاقةً جديدةً بالرغم من مرضه وكأنما كان يلاحق القدر، أو يشعر باقتراب الأجل، فأراد أن يحصِّل من الأجر والثواب وعمل الخير ما يكون زادًا له يوم القيامة.
وكتب الشيخ خواطره عن المرض “دروس وعبر”، ثم دخل في حالة مرضية غيبوبية مثل الأولى بسبب هذا الوباء الذي أصيب به العديد من أبناء الشعب المصري، ولقي ربه صابرًا محتسبًا راضيًا مرضيًّا فجر يوم الاثنين 30 يوليو2007م، 16 رجب 1428هـ، بعد رحلة طويلة مع المرض الذي شاء الله أن يكون له ممحِّصًا، ورافعًا للدرجات إن شاء الله.
كانت جنازته مهيبة؛ تُذكِّر- في ضخامة عددها- الإنسانَ بجنازات الزعماء والقادة والرؤساء، ولِمَ لا، وصاحبها من كبار الدعاة إلى الله، ومن أبرز العلماء الربانيين في الدعوة الإسلامية في هذا الزمان؟!
كانت هناك موانع كثيرة تمنع الناس من أن تشارك في الجنازة؛ منها: الحر الشديد، والرطوبة العالية، وحرارة الشمس اللافحة التي ربما تجاوزت خمسًا وخمسين درجة في هذا اليوم، وهي كفيلة بأن تجعل الناس يتردَّدون في الذهاب إلى الجنازة.
ومنها أننا كنا في فصل الصيف، بل في كبد الصيف، وكثير من الوافدين عادوا إلى بلادهم ليقضوا إجازتهم السنوية، ومنها بُعد المكان في هذا الحر؛ فقد دفن الشيخ بمكانٍ يسمى “الصليبخات”، وهي مكان يبعد عن مدينة الكويت بحوالي 40 كيلو مترًا في هذا الجو الخانق.
ومع ذلك تجمعت السيارات من كل حدب وصوب نحو مكان المصلى والدفن؛ يحدوهم حب الشيخ الذي تمكَّن من قلوبهم، وعيونهم ملأى بالدموع حزنًا على رحيله، لا سيما عند صلاة الجنازة، وليس بمستغرب أن تجتمع له هذه الألوف المؤلفة من البشر لتصليَ عليه، وهو الذي كان يصلي أسبوعيًّا صلاة الغائب يوم الجمعة في مسجد الوزان على من يبلغه خبر وفاته، ومن يموت من المسلمين في كل أسبوع.
وكما هو معروف أن بلاد الخليج فيها من كل الجنسيات، ومع ذلك لم يقتصر الحضور على المصريين فقط، بل كان فيها معظم الجنسيات الموجودة بالكويت، كما تجمَّع فيها كثير من التيارات الفكرية من سلفية، وإخوانية، وغيرها.
وإن دلَّ ذلك فإنما يدل على أن الشيخ كان رجلاً ربانيًّا، وداعيةً إيمانيًّا، وعالمًا عاش هموم أمته وهموم مجتمعه بعيدًا عن الانغلاق والتعصب، وهذه الألوف المؤلفة شاهدةٌ على أنها عاجل بشرى الشيخ إن شاء الله، وعلى أنه القبول في الدنيا قبل الآخرة.
رحمه الله ورفع درجاته في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.